الحمد لله وبعد،،
حين تصلي الفجر في رمضان فإنك تجد بعض الموفقين ينشرون مصاحفهم ويتلون كتاب
الله بقدر ما ييسر الله لهم، وهكذا حين تصلي الظهر تجد فئاماً يقرؤون شيئاً
من القرآن، وهكذا –أيضاً-بعد صلاة العصر يدوّي المسجد في جمال أخاذ بأصوات
الناس متنافسين في ختمات القرآن.
لكن ما إن يخيم مساء رمضان إلا وتجد المصاحف قد طويت، وأصوات القرآن قد
انطفأت، حتى ظن كثير من الناس أن فضيلة تلاوة القرآن مخصوصة بـ(نهار رمضان)
فقط، بل أعرف بعض الأخيار يجعل التلاوة في ليل رمضان لقضاء ما فاته من ورده
بالنهار فقط، فكأنه يجعل ليل رمضان وقت (قضاء التلاوة الفائتة) لا وقت
(أداء)! ولا يخطر بباله أن ليالي رمضان "وقت فاضل" لتلاوة القرآن!
وما تفسير هذه الظاهرة؟ يبدو لي أن هناك ارتباطاً ذهنياً وقع بشكل خاطئ،
فنحن نسمع عن فضل تلاوة القرآن في رمضان، وأشهر خصائص رمضان هو الصيام،
فارتبط في ذهن البعض أن تلاوة القرآن تكون في نهار رمضان أثناء الصيام فقط!
وهذا الارتباط الذهني ارتباط غير دقيق، فإن ليالي رمضان أشرف من نهاره،
والنصوص التي ظهر فيها اختصاص رمضان بالقرآن كان ظرفها الزمني هو ليالي
رمضان، لا نهار رمضان، وسأذكر شيئاً من هذه الشواهد.
أخبرنا الله سبحانه بالوقت المحدد الذي نزل فيه القرآن، أي نزل إلى السماء
الدنيا ثم نزل على رسول الله منجّما بحسب الوقائع كما في الأثر المشهور عن
ابن عباس، وقد جاء هذا الخبر عن الساعات المحددة لنزول القرآن في آيتين من
كتاب الله، حيث يقول الله
(إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر، 1].
ويقول سبحانه
(إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)
[الدخان، 3].
وليلة القدر هي الليلة المباركة وهي من ليالي رمضان، لا من نهاره، وإذا
تساءل المتدبر: لماذا اختار الله (ليل) رمضان ظرفاً زمانياً لنزول القرآن،
ولم يختر (النهار) ؟ أدرك شرف ليل رمضان، وأن ثمة ارتباطاً بين القرآن
وليالي رمضان، وأن ليالي رمضان أليق بالقرآن وأنسب له من النهار، ولذا
اختار الله ليل رمضان لنزول القرآن.
ومن أعظم أعمال النبي –صلى الله عليه وسلم- في رمضان كل سنة هو أن يدارس
القرآن مع جبريل عليه السلام، فما هو الوقت الذي اختاره الله لهما ليتدارسا
القرآن؟
هذا الوقت لمدارسة القرآن بين النبي –صلى الله عليه وسلم- وجبريل لم يكن
نهار رمضان، بل كان ليل رمضان، كما روى البخاري عن ابن عباس (كان
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان
حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه
القرآن)[البخاري:3220]
لاحظ هاهنا أن الوقت الذي اختاره الله لهما لمدارسة القرآن هو كل "ليلة
رمضانية"، فلم يكن في بعض الأيام بالنهار مثلاً، بل الوقت محدد كل ليلة! (وكان
جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن).
ولاحظ أيضاً أن هذا الوقت اختاره الله سبحانه وتعالى، وليس مجرد توافق بين
النبي –صلى الله عليه وسلم- وجبريل، ولا يختار الله سبحانه زمناً معيناً
إلا طبقاً لحكمته العظيمة سبحانه وتعالى.
وقد يتساءل البعض: قد يكون هذا الوقت مجرد توافق بين النبي –صلى الله عليه
وسلم- وجبريل، وليس توقيفاً إلهياً؟ وهذا احتمال غير دقيق، لأن الله تعالى
قال عن الملائكة
(وَمَا
نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ)[مريم:64]
فبيّن تعالى
أن وقت تنزّل الملائكة إنما يكون بتوجيه إلهي، كما روى البخاري عن ابن عباس
قال:
(
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجبريل: "ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؟"
، قال فنزلت "وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما
خلفنا")[البخاري:3218].
والمراد أن هذا الوقت الذي يتدارس فيه جبريل مع النبي –صلى الله عليه وسلم-
القرآن كل (ليلة) إنما هو اختيار إلهي للوقت، وهذا يحفز المتدبر لتأمل
أسرار الاختيار الإلهي لهذا الوقت، وكون الليل أشرف أوقات اليوم لتدارس
القرآن.
وهذه الدلالة العظيمة على شرف الليل للقرآن في حديث مدارسة النبي –صلى الله
عليه وسلم- مع جبريل نبّه عليها عدد من أهل العلم، ومنهم عابد المحدثين
الإمام ابن رجب حيث يقول:
(وفي
حديث ابن عباس "أن المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً" فدل على استحباب
الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً، فإن الليل تنقطع فيه الشواغل، وتجتمع
فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر، كما قال تعالى: {إِنَّ
نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً})[ابن رجب،
لطائف المعارف، دار ابن كثير، تحقيق السواس، ص315].
وتلاحظ أن ابن رجب في هذا النص استنبط من كون المدارسة النبوية/الجبرائيلية
في ليل رمضان على "
استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً"
كما يقول رحمه الله.
وقريب من هذا المعنى لكن باستنباط فيه قدر زائد على ما سبق يقول ابن حجر عن
هذا الحديث:
(وفيه أن ليل رمضان أفضل من نهاره..، ويحتمل أنه -صلى الله عليه وسلم- كان
يقسم ما نزل من القرآن في كل سنة على ليالي رمضان أجزاءً، فيقرأ كل ليلة
جزءاً في جزء من الليلة، والسبب في ذلك ما كان يشتغل به في كل ليلة من سوى
ذلك من تهجد بالصلاة، ومن راحة بدن، ومن تعاهد أهل)[ابن حجر، فتح
الباري:9/45].
واضح أن ابن حجر هاهنا يؤكد معنى أكثر عمومية، وهو أن "ليل رمضان أفضل من
نهاره" كما يقول رحمه الله.
وفي رسالة مطبوعة للإمام ابن باز –تغمده الله برحمته- بعنوان (الجواب
الصحيح من أحكام صلاة الليل والتراويح) تحدث فيها عن فوائد حديث ابن
عباس في المدارسة النبوية/الجبرائيلية فكان مما ذكره:
(وفيه فائدة أخرى: وهي أن المدارسة في الليل أفضل من النهار، لأن هذه
المدارسة كانت في الليل، ومعلوم أن الليل أقرب إلى اجتماع القلب وحضوره
والاستفادة أكثر من المدارسة نهارا)[ابن باز، الجواب الصحيح من أحكام صلاة
الليل والتراويح،ص13]
ومن الشواهد على شرف ليل رمضان ومناسبته للقرآن أن أهل العلم ذكروا أن من
غايات تشريع التراويح كما يقول الإمام ابن تيمية
(وأما قراءة
القرآن في التراويح فمستحب باتفاق أئمة المسلمين، بل من أجل مقصود التراويح
قراءة القرآن فيها ليسمع المسلمون كلام الله)[ابن تيمية، الفتاوى:23/122].
فإذا لاحظ المتأمل أن صلاة التراويح من مقاصدها سماع المسلمين للقرآن،
واستحضر أن صلاة التراويح صلاة ليلية أصلاً؛ استبان له تزامن جديد بين ليل
رمضان والقرآن.
وربما يتساءل البعض: وهل هناك وقت في الليل لتلاوة القرآن؟ والحقيقة أن
هناك أوقاتاً كثيرةً، منها التقدم للمسجد مبكراً في صلوات الفريضة الليلية
وتلاوة القرآن لتحقيق هذا الفضل وهو تلاوة القرآن في ليالي رمضان.
ومنها: الوقت الذي يلي تناول وجبة العشاء وحتى إقامة صلاة العشاء، فإنه وقت
مهدور عند كثير من الناس، أو يصرفه البعض في مشاهدة المسلسلات المشينة التي
تقدح في روحانية الشهر، فلو تقدم إلى المسجد وصرف هذا الوقت في تلاوة
القرآن لحقق مكتسبات عظيمة من أهمها استثمار شرف الليالي القرآنية بتلاوة
القرآن فيها.
ومن أهم الأوقات لحظات الأسحار، إما قبل وجبة السحور أو بعدها، وللقرآن في
الأسحار هيبة وسكون لا يوصف..
ولا يفوت القارئ الكريم أن المقصود من هذه المقالة ليس التزهيد في تلاوة
القرآن في نهار رمضان، معاذ الله، ولكن التنبيه إلى وقت شريف للقرآن وهو
ليالي رمضان يفوتنا استثماره إلا من وفّق الله، فالهدف أن نزيد تلاوتنا في
الليل والنهار، وليس المقصود أن نستبدل زمناً بآخر.
والله
أعلم
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
ابوعمر
رمضان 1433هـ